ضحايا العبودية الحديثة.. بين التشريعات العاجزة وتغول الاستغلال في زمن النزاعات والأزمات

ضحايا العبودية الحديثة.. بين التشريعات العاجزة وتغول الاستغلال في زمن النزاعات والأزمات
ضحايا العبودية الحديثة- تعبيرية

في عالمنا المعاصر، حيث تتسارع وتيرة التقدم والتطور، تظل ظاهرة العبودية الحديثة جرحًا غائرًا في ضمير الإنسانية، تذكّرنا بأن الظلم والاستغلال لا يزالان متجذرين في مجتمعاتنا. 

تتخذ هذه الظاهرة أشكالًا متعددة، تتراوح بين العمل القسري والزواج القسري والاتجار بالبشر، مما يستدعي تحليلًا معمقًا لفهم أبعادها وتحدياتها، ووضع حلول واقعية بعيدة عن التنظير القانوني المجرد، تستند إلى بيانات وأصوات الناجين وتحديات المؤسسات الحقوقية.

في هذا السياق، أطلق رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، فيليمون يانغ، تحذيرًا حادًا بشأن تنامي العبودية الحديثة والاتجار بالبشر، واصفًا إياهما بأنهما "انتهاكان مروّعان لحقوق الإنسان" يُهينان كرامة الإنسان ويُسيئان إلى الإنسانية جمعاء.

جاءت تصريحاته خلال فعالية أقيمت في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، بالتزامن مع إصدار اللجنة العالمية المعنية بالعبودية الحديثة تقريرًا جديدًا كشف عن وجود نحو 50 مليون رجل وامرأة وطفل عالقين في أوضاع استعباد حول العالم، ووصف يانغ التقرير بأنه "جرس إنذار لا يمكن تجاهله"، داعيًا الدول إلى تحمل مسؤولياتها والعمل الجماعي العاجل لمعالجة الجذور والأبعاد والآثار المدمّرة لهذه الظاهرة.

وأشار إلى أن واحدًا من كل ثلاثة ضحايا للاتجار بالبشر هو طفل، وأن النساء والفتيات يشكلن غالبية الضحايا، وغالبًا ما يتعرضن لأبشع أشكال العنف والاستغلال الجنسي، مؤكدا أن التشريعات وحدها لا تكفي، بل يجب التركيز على التنفيذ الجاد وتطوير سياسات تأخذ في الاعتبار الصدمات النفسية وتراعي أوضاع الناجين، مع تعزيز النمو الشامل الذي يوفر فرصًا عادلة في التعليم والرعاية الصحية وسوق العمل.

العبودية الحديثة وأشكالها

تُعرّف العبودية الحديثة بأنها حالة يُجبر فيها الأفراد على العمل أو الزواج أو يُستغلون بطرق أخرى ضد إرادتهم، تحت التهديد أو الخداع أو الإكراه، تشمل هذه الظاهرة العمل القسري، والزواج القسري، والاستغلال الجنسي، والاتجار بالبشر، ووفقًا لتقرير منظمة العمل الدولية لعام 2021، يعيش نحو 50 مليون شخص في العبودية الحديثة، منهم 28 مليونًا في العمل القسري و22 مليونًا في الزواج القسري.

العمل القسري يمثل أحد أبرز أشكال العبودية الحديثة، حيث يُجبر الأفراد على أداء أعمال ضد إرادتهم تحت التهديد أو العنف أو غيره من أشكال الإكراه، يحدث ذلك في مجموعة متنوعة من القطاعات، بما في ذلك الزراعة، والتصنيع، والخدمات المنزلية، والبناء، وتشير تقديرات منظمة العمل الدولية إلى أن 86% من حالات العمل القسري توجد في القطاع الخاص، مع تمثيل النساء والفتيات لنسبة كبيرة من الضحايا، خاصة في حالات الاستغلال الجنسي التجاري.

أما الزواج القسري فهو شكل آخر من أشكال العبودية الحديثة، حيث يُجبر الأفراد، وخاصة النساء والفتيات، على الزواج ضد إرادتهم، ووفقاً لتقرير منظمة العمل الدولية لعام 2021، كان هناك 22 مليون شخص يعيشون في زواج قسري، بزيادة قدرها 6.6 مليون مقارنة بتقديرات عام 2016.. تحدث معظم حالات الزواج القسري بسبب الضغوط العائلية والاجتماعية، وغالبًا ما ترتبط بعوامل مثل الفقر وعدم المساواة بين الجنسين، والتقاليد الثقافية المتجذرة.

الاستغلال الجنسي التجاري هو شكل مروع آخر من أشكال العبودية الحديثة، حيث يُجبر الأفراد، وخاصة النساء والفتيات، على تقديم خدمات جنسية مقابل المال أو المنافع الأخرى، وتشير التقديرات إلى أن نحو 23% من حالات العمل القسري تشمل الاستغلال الجنسي التجاري، مع كون النساء والفتيات يشكلن الغالبية العظمى من الضحايا، وغالبًا ما تُستدرج الضحايا بوعود كاذبة بالزواج أو العمل أو السفر، ليجدن أنفسهن في شبكات مغلقة من العنف والإذلال والتهديد.

العبودية الحديثة لا تقتصر على منطقة جغرافية معينة أو ثقافة محددة؛ بل هي ظاهرة عالمية تؤثر على جميع البلدان، بغض النظر عن مستوى التنمية الاقتصادية، ووفقًا لتقرير منظمة العمل الدولية، توجد أكثر من نصف حالات العمل القسري وربع حالات الزواج القسري في البلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى أو الدخل المرتفع، ففي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، وصلت حالات العبودية الحديثة إلى مستوى قياسي في عام 2024، مع تسجيل 19,125 حالة، بزيادة على 17,000 حالة في عام 2023، وفقا لوكالة رويترز.

عوامل متعددة

وتتعدد العوامل التي تسهم في انتشار العبودية الحديثة، منها الفقر، والنزاعات، والتمييز، وعدم المساواة بين الجنسين، والهجرة غير النظامية، فعلى سبيل المثال، يواجه العمال المهاجرون خطرًا أكبر بثلاث مرات للتعرض للعمل القسري مقارنة بالعمال غير المهاجرين، بالإضافة إلى ذلك، تؤدي الأزمات العالمية مثل جائحة كوفيد-19 وتغير المناخ والنزاعات المسلحة إلى تفاقم هذه العوامل، مما يزيد من تعرض الأفراد للاستغلال.

آثار اقتصادية واجتماعية ونفسية

تترتب على العبودية الحديثة آثار اقتصادية واجتماعية ونفسية مدمرة على الأفراد والمجتمعات، فعلى المستوى الاقتصادي، تُقدر الأرباح غير المشروعة الناتجة عن العمل القسري بنحو 236 مليار دولار سنويًا، مع تحقيق الجزء الأكبر من هذه الأرباح من الاستغلال الجنسي التجاري، واجتماعيًا، تؤدي العبودية الحديثة إلى تفاقم عدم المساواة وتعزيز دورات الفقر، ونفسيًا، يعاني الضحايا من صدمات نفسية عميقة تؤثر على صحتهم العقلية والجسدية على المدى الطويل.

الناجون من العبودية الحديثة يواجهون تحديات هائلة في إعادة بناء حياتهم، حيث إن الخروج من الاستعباد لا يعني بالضرورة نهاية العذاب، فغالبًا ما يواجه الضحايا وصمة اجتماعية، ونقصًا في الدعم القانوني والنفسي، وصعوبات في الوصول إلى التعليم والعمل والرعاية الصحية، ولذلك، هناك حاجة ماسّة إلى تطوير برامج إعادة دمج شاملة تأخذ في الاعتبار السياقات الثقافية والاقتصادية والنفسية للضحايا.

ورغم وجود العديد من الاتفاقيات الدولية لمكافحة العبودية الحديثة، مثل بروتوكول باليرمو (2000) والاتفاقية رقم 29 لمنظمة العمل الدولية (1930)، فإن التنفيذ الفعلي لتلك الاتفاقيات لا يزال يواجه تحديات كبيرة، حيث تُضعف النزاعات، والفساد، ونقص الإرادة السياسية جهود التنفيذ في عدد من الدول. كما تفتقر الكثير من البلدان إلى آليات فعالة لرصد الانتهاكات ومعاقبة الجناة.

ومن بين أكثر التحديات حساسية، يبرز التواطؤ المؤسسي، حيث تكون بعض سلطات إنفاذ القانون، أو شبكات النفوذ المحلي، جزءًا من المشكلة وليس الحل، وتُوثق تقارير المنظمات الحقوقية حالات تعذيب للضحايا على يد الشرطة بدلًا من حماية الناجين، مما يعكس أزمة ثقة عميقة بين المجتمعات والسلطات.

أوجه القصور في جهود مكافحة العبودية الحديثة 

أكد فائز صالح محمد، رئيس منظمة شهود لحقوق الإنسان في تصريحه لـ"جسور بوست" أن جهود المجتمع الدولي لمكافحة العبودية الحديثة والاتجار بالبشر تعاني من قصور بالغ، رغم وضوح وتجريم هذه الممارسات في العديد من المواثيق الدولية، وأوضح أن ما يُكتب في المعاهدات والاتفاقيات يبقى في كثير من الأحيان مجرد حبر على ورق، في ظل غياب الإرادة السياسية لدى بعض الحكومات، وضعف آليات الرصد والمساءلة، وانعدام التنسيق الفعّال بين الدول والمنظمات المعنية.

وانتقد فائز غياب التمويل الكافي للجهات المختصة بحماية الضحايا، ما يجعل الجهود تتركز غالبًا على التدخل بعد وقوع الانتهاكات، بدلًا من التركيز على الوقاية والتنمية ومعالجة الجذور البنيوية للمشكلة، وأضاف أن هذا الخلل يفتح المجال أمام استفحال الظاهرة بدلًا من كبحها.

بيئة خصبة للانتهاكات

رأى فائز أن الحروب والصراعات، مثل تلك الدائرة في اليمن والسودان، تهيئ بيئة خصبة للانتهاكات، ففي اليمن، أدت الحرب التي أشعلتها ميليشيا الحوثي إلى انهيار اقتصادي شامل، ألقى بثقله على النساء والأطفال، ودفعهم إلى خيارات قسرية من أجل البقاء، وسط تفشي شبكات الاتجار بالبشر في مناطق النزاع والفوضى، كما أدت ممارسات النهب من قبل الجماعات المسلحة إلى تعميق المعاناة الاجتماعية وانهيار حماية الفئات الضعيفة.

وشدّد فائز على أن النجاة من العبودية لا تعني نهاية الألم، بل بداية تحديات جديدة، إذ يواجه الناجون مشكلات نفسية واجتماعية واقتصادية مركّبة، في ظل انعدام الدعم النفسي والاقتصادي، خاصة في دول النزاع التي تفتقر إلى أي مقومات لإعادة التأهيل أو الاندماج، وأشار إلى أن العديد من الضحايا يعيشون في عزلة، ما يزيد خطر إعادة استغلالهم من جديد.

قوانين بلا تطبيق واستغلال اللاجئين

أكد عبدالرحمن برمان، مدير المركز الأمريكي للعدالة (ACJ) في تصريحه لـ"جسور بوست"، أن هناك فجوة كبيرة بين ما تنص عليه المواثيق الدولية وما يحدث على أرض الواقع، وأوضح أن العديد من الدول توقع على اتفاقيات دولية وتدرجها في قوانينها، لكنها لا تطبقها فعليًا، ما يجعل اللاجئين، أكثر الفئات هشاشة، عرضة للاستغلال دون حماية.

أشار برمان إلى أن سياسات الدول الصارمة ضد اللاجئين تدفعهم إلى الصمت حيال الانتهاكات خوفًا من الترحيل أو العقاب، وأوضح أن كثيرًا من هؤلاء يُجبرون على العمل دون أجر أو يتعرضون للاعتداءات الجنسية، في ظل غياب الرقابة ووجود الفساد الذي يحمي المتورطين من المساءلة.

وعي ضئيل وموارد محدودة

لفت برمان إلى أن غالبية الضحايا يأتون من مناطق ريفية معزولة ولا يملكون الوعي بحقوقهم أو كيفيات الحماية، بينما تواجه المنظمات المعنية نقصًا حادًا في الموارد، يمنعها من تقديم الدعم الكافي أو التدخل في الوقت المناسب.

ودعا برمان المجتمع الدولي إلى الانتقال من التصريحات إلى الأفعال، مطالبًا بآليات مساءلة دورية للدول، وإدراج المتورطين في قوائم سوداء، إلى جانب توفير الدعم المالي الكافي لمساعدة الضحايا وإعادة تأهيلهم، وضمان توطينهم في بيئات آمنة ومستقرة.

تداعيات الحروب والنزاعات

من جهتها، قالت الناشطة الحقوقية أحلام يس، في تصريحها لـ"جسور بوست" إن تشريعات حماية الأطفال وحقوق الإنسان تنهار في سياق الحروب والنزاعات، حيث تتعطل مؤسسات الدولة، وتتحول المجتمعات إلى فراغ قانوني كبير يستباح فيه الإنسان.

وأوضحت أحلام أن النزوح الجماعي والكوارث الاقتصادية تدفع الأفراد نحو الهشاشة، وتجعل النساء والأطفال عرضةً للاستغلال والاتجار، وأكدت أن انهيار الاقتصاد يجبر البعض على بيع كرامتهم من أجل البقاء، بينما يستغل آخرون هذه الفوضى لارتكاب انتهاكات مروعة.

وشددت أحلام على أن التصدي للعبودية الحديثة يتطلب استراتيجية شاملة تبدأ بدعم اقتصادي للفئات المتضررة، مرورًا بإعادة بناء مؤسسات الدولة، وانتهاءً بحملات توعية مجتمعية تخلق حصانة ضد هذه الانتهاكات، كما دعت إلى تعديل التشريعات الحالية بما يتناسب مع أوضاع النزاع، وتحميل المجتمع الدولي مسؤولية التحرك الجاد.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية